مغامرة صحفية داخل مصنع للدخان المعسل - بنات التبغ.. حياة ضائعة بين الفقر والدخان القاتل
قامت بالمغامرة: صفاء صالح
في كل صباح تستيقظ الالاف من فتيات الريف مع نزول أول قطرات الندي علي اوراق الورود بالمشاتل المنتشرة بمحافظة المنوفية لا ليقطفن الزهور أو يحملنها الي مصانع العطور ولكن ليحملن التبغ ويخلطنه بالقطران في مصانع المعسل المنتشرة بالمحافظة لتشرب الصبايا والرياحين الصغيرة المر من أجل خمسة عشر جنيها تقيهن ذل السؤال في آخر اليوم.. يوميا تتعرض تلك الفتيات اللاتي تتراوح أعمارهن ما بين 9 سنوات الي 22 سنة للعديد من المخاطر الصحية نتيجة تعاملهن مع الأتربة والأحماض والغازات المنبعثة أثناء عمليات التصنيع والتعبئة الي جانب احساسهن بالمهانة الناتجة عن التعسف والعنف من مشرفات صالات المصنع ولا يجدن من يطالب بحقوقهن أو يرفع عنهن الأذي النفسي والبدني.
استيقظت في الخامسة وخرجت من المنزل في السادسة الا الربع ولم تكن الشمس قد صحت من سباتها بعد بينما وقفت عشرات الفتيات والاطفال من قريتي علي محطة القرية - منشأة سلطان ، الواقعة علي بعد 11 كم من العاصمة شبين الكوم - بانتظار الأتوبيسات التي سوف تقلهن الي مصانع العاصمة شبين الكوم ومدينة السادات فهذه المجموعة ذاهبة الي مصانع الملابس وتلك الي مصانع التبغ 'المعسل' وأنا واقفة في ركن أرقب وانتظر فتيات مصنع التبغ "الدخان المعسل" حتي شارفت الساعة علي السادسة والنصف وهمت أول مجموعة بالرحيل فذهبت اليهن وسألت عن أتوبيس مصنع الدخان فأجابت احداهن بأنه لم يأت بعد وأشارت الأخري خلفي بأنه هو القادم هناك فتوجهت إليه وسألت السائق : 'الأتوبيس ده رايح مصنع الدخان؟'.
فأجابني : 'أيوة ، انتي جديدة'؟
- : "أيوه أول مرة".
- : "نورتينا ولو ليكي اخوات او اصحاب قولي لهم وهاتيهم احنا عاوزين بنات كتير كمان اتوبيس او اتنين".
صعدت السيارة القديمة وقلبي يكاد يقف خوفا من هذا العالم المجهول المقبلة عليه من جهة أو ان تفشل مهمتي وينكشف أمري من جهة أخري.
كان السائق يصطحب ابنته الصغيرة التي لم تكمل عامها السادس بعد وكلما هممت بالجلوس علي أحد المقاعد أخبرتني أن هذا المقعد يخص احدي الفتيات وانها ان جاءت ووجدتني فسوف تطردني منه فسألتها: اين أجلس اذن؟ فاشارت إلي المقعد خلف السائق ولكن اشترطت أن اجلس ناحية الطرف لأن جانب النافذة يخص داليا وسوف تغضب ان وجدتني فقلت لها "مش هتفرق لما تزعل ابقة اقعد ناحية الطرف" .
انتظرت بضع دقائق حتي بدأت الفتيات تأتي المجموعة تلو الأخري تحمل كل فتاة منهن كيسا بلاستيكيا صغيرا به عباءة العمل وأكل لوجبة الغداء، جلست كل واحدة في مكانها الذي تعرفه جيدا وجاءت داليا ولم تعلق علي وجودي الا بعبارة مقتضبة وحادة : 'ده مكاني'.
الفتيات جميعهن واجمات صامتات غاضبات يظهر غضبهن اذا ما استفزت احداهن الاخري لينطلق بركان من الغضب المفعم بالشتائم.
وبعد أن انطلق الميني باص في طريقه للمصنع سألتني نجية أو دلوعة كما يطلقون عليها : 'انتي جديدة يا عسل؟!'
فأومأت برأسي : 'نعم'.
فردت : طب أنصحك تاخديها من قصيرها وتشوفيلك شغلانة تانية بدل القرف اللي احنا فيه ده.
وقالت بضحكة ساخرة: خديها معاكي السخانات يا داليا'.
فردت: 'وماله تيجي'.
سألتها عن ماهية هذه السخانات؟
قالت باقتضاب: هناك هتعرفي.
ثم انتابت نجية حالة من الكحة الشديدة أردفتها بقولها " الله يخرب بيت عجينة دخان امبارح دي لما بيجيبوها الواحد بيبقه هيموت وهوا بيوزنها ولا بيحط ايده فيها.
ثم قالت للفتاه بجانبها" بالليل أغمي عليا في الحمام وامي بقت تصوت عليا ".
فسألتها :" انتي تعبانة؟"
"أه صدري بيوجعني من الغم اللي احنا بنشوفه في الشغل".
"طب ما تكشفي".
"كشفت كتير ومافيش فايدة.. هو طول ماحنا في المصنع هنخف أبدا؟"
"طب ليه عجينة معسل امبارح بالذات بتتعبك؟".
"عشان فيها مية نار أكتر من معسل القص ".
وهما النوعان اللذان ينتجهما هذا المصنع من المعسل الي جانب النشوق.
تعمل نجية في المصنع حتي تجهز نفسها وتكمل شوارها 'جهاز العروس' فهي مخطوبة منذ فترة وعلي وشك اتمام الزواج.
وصل بنا السائق الي المصنع.. وعبر بنا البوابة فلم يشك فيه أحد من الأمن ولم يسألوني عن هويتي.
سرت مع باقي الفتيات حتي دخلنا في مبني أربعة أدوار أخبروني أن صالة عملهم في الدور الرابع وبمجرد دخولي من باب المبني انتابتني نوبة كحة شديدة رغم أن العمل لم يبدأ بعد .
وأثناء صعودي للسلم لم أستطع لمس الدرابزين الذي كان مغطي بمادة لزجة سوداء من بقايا المعسل وهو نفس حال درجات السلم والحوائط ، وتقول الدكتورة " أمل سعد الدين " أستاذ صحة البيئة والطب الوقائي بالمركز القومي للبحوث العلمية:" ان اخطر ما يهدد العاملات في هذه المصانع الرطوبة العالية التي تسبب تراكم الفطريات علي الحوائط والارضيات ومنها فطر 'الاسبيراجلاز' الذي يفرز سموما يتسبب استنشاقها في أورام سرطانية في الكبد كما أن لها تأثيرا ضارا علي المناعة.
ووصلنا الي الصالة التي كنت أتوق لرؤيتها طوال الطريق، وجدتها واسعة طويلة تسع ثلاثين طاولة أو اكثر علي رأس كل منها ميزان لوزن المعسل وعرفت أن الوزينة الشاطرة 'الفتاة التي تقوم بوزن المعسل' هي التي تزن بيدها دون استخدام ميزان، وعلي كل طاولة ما يقرب من عشر فتيات والقليل من الفتية الذين لا يتجاوز عددهم العشرة في كل صالة وعندما عرفوا أنني جديدة دلوني علي فتاة في العشرينيات تدعي ' هند' مشرفة الصالة وعليّ ان اخبرها بأني جديدة، فذهبت وأخبرتها برغبتي في العمل فوافقت وأمرتني بالجلوس حتي يبدأ العمل.
جلست أراقب الفتيات أثناء توافدهن علي الصالة أكثر من 200 فتاة منهن ما لا يقل عن 15 طفلة لا تتعدي اعمارهن العشر سنوات .
قبل بدء العمل نادتني 'هند' بعد أن تبادلت النظرات مع موظف اخر ثم تحدثا لدقائق قبل أن تخبرني أنها سترسلني الي صالة أخري بها فتيات مهذبات لأن الوضع هنا لن يريحني حيث صعوبة العمل كما أن رئيسة الصالة عنيفة وكثيرا ما تضرب وتسب البنات، لكني طلبت منها أن أظل معها في هذه الصالة 'اللبش' لأنها سوف يكون بها العديد من الأحداث طوال اليوم وتعللت بأنني ارتحت للتعامل معها وإذا لم يعجبني الحال أذهب لصالة أخري بعد الغداء، فوافقت علي مضض وأجلستني علي الطاولة الأخيرة مع فتيات أقل حدة ممن في مقدمة الصالة ولكنها ظلت تنظر لي بأسي و لسان حالها يذكرني بالصالة الأخري أنني لست"وش بهدلة".
جلست بجوار الفتيات أتعلم تقفيل العبوات ورصها في الصندوق وكانت الفتيات يعملن بسرعة عجيبة وكانت الصغيرات حولنا كشغالات النحل فهن يمسحن الأرضية من المعسل المتساقط باستمرار دون توقف ومنهن من تحمل الينا المعسل الخام واخريات يمسحن الطاولات وهكذا لا يتوقفن عن العمل.
كانت آية '11سنة' تعمل في جمع القمامة من الصالة وفرزها حيث تفصل ورق السوليفان عن الكارتون عن بقايا المعسل المتساقط بأرضية الصالة وقالت آية إنها أتت هنا بعد أن اخرجها ابوها من الصف الخامس وارسلها لتعمل في هذا المصنع لتساعده بأجرها فهو عامل بسيط لا يستطيع الانفاق عليها واخواتها.
أما أميرة '15 سنة' أو 'زواوي' كما تطلق عليها البنات فكانت تتعرض طوال اليوم للضرب من البنات الأكبر سنًا وسط حركة دءوبة في جمع القمامة رغم أنها من ذوات الاعاقة 'فقدت عينها اليمني'. وتقول 'أنا ماكنتش كده انا كنت باشوف كويس لحد ما واحد راكب عجلة عليها لوح زجاج دخل فيّ بلوح الزجاج في عيني صفاها ، بعدها سبت المدرسة وجيت اشتغل هنا'.
وفي الصالة ايضا فتاة تدعي سيدة '٢٢' عاما من ذوات الاعاقة شلل أطفال لم تحتمل ريسة الصالة بطء حركتها في اللف أو التعليب فجعلوها تقوم بكنس الصالة ذهابا وايابا طيلة اليوم كما تنزل لجلب الاقفاص من المبني الآخر كلما نفدت وتقول 'أنا يتيمة الأم ومن فترة مات أبويا كمان وماعدش ليا حد أختي اتجوزت وأصبحت انا وحيدة هاصرف منين لازم اشتغل واستحمل اي حاجة عشان أعيش'.
وبعد حوالي ربع ساعة جاء أحد الموظفين الكبار المسئول عن العمال واخذ يمرر نظره في الصالة حتي توقفت عيناه عندي وسألني :" انتي جديدة؟".
فأجبته :"أيوه".
ثم نظر لـ'هند' وقال لها :" دي مش شكل هنا مخلياها هنا ليه معاهم؟".
فأجابته :" أنا قلت لها هاوديكي الصالة التانية وهي صممت تفضل هنا".
فالتفت الي وقال:" تعالي انا هاخذك حتة كويسة انتي مش هتسلكي هنا انتي مش شكلهم تتبهدلي"
فاضطررت آسفة أن أرضخ لأمره حتي لا أثير ريبة أحد في، وهنا صاحت نجوي بجواري. "خدني معاها والنبي ياعم اسامة دا انا مؤدبة والله وبنت ناس زيها اشمعني هي" ، فابتسم اسامة ولم يلتفت اليها .
وذهبنا إلي المبني الآخر وصعدت الي الصالة وبالفعل وجدت بها أربع طاولات فقط للمعسل وباقي الصالة يستخدم لانتاج ورق كرتون عبوات المعسل داخل المصنع حيث يقوم العمال بعملية التقطيع والرص، وبالفعل كانت الصالة أهدأ من الأخري بكثير فقد علمت بعد ذلك أن أقسي صالتين علي البنات هما صالتا بشري وناصرة التي كنت بها.
وقفت أنا وأربع فتيات أخريات علي الطاولة منهن ثلاث جدد مثلي وأخذت دنيا الوزينة القديمة تزن المعسل وتضعه لأسماء علي ورق السوليفان حتي تلفه واقوم انا وعزة بالتعبئة داخل عبوات الكرتون التي تقفلها حسنات وترصها في الأقفاص "السبات" .
ورغم أن الصالة لم تكن من صالات العمل الرئيسية المزدحمة بالعاملات إلا انها كانت تضم نحو ثلاثين فتاة بينهن ست فتيات صغيرات تتراوح أعمارهن بين 9 - 12 عاما وحولي دائما كانت تحوم 'عفاف' ذات الاحد عشر ربيعا لتمسح ما يقع من التبغ علي الأرض او الطاولة ، لا تبتسم ولا تبكي ولكن تعمل في صمت وأنا أنظر إليها في أسي مثلما أشفقت علي طفلة أخري بالصالة لم تتجاوز العاشرة مهمتها جر عربة حديدية مليئة بورق الكارتون .
في صالتي الجديد "صالة الاسطي علي" حيث تسمي كل صالة علي اسم رئيسها أو رئيستها، جلست أعبئ المعسل، كان من الحجم الأكبر حيث كانت العبوة 192.5 جم وكانت الطاقة الإنتاجية لكل طاولة 10 صناديق في الساعة وتعمل الفتيات مايقرب من 9 ساعات 'في مخالفة واضحة لقانون العمل المصري الذي ينص علي أن ساعات العمل 7 ساعات يتخللها نصف ساعة راحة' أي أن كل 5 فتيات يعبئن 90 صندوقا يوميا في كل صندوق 60 عبوة سعر العبوة ٥.٣ جنيه أي ما قيمته 18900 جنيه فنصيبي انا من التعبئة 3780 جنيها أتقاضي نظير تعبئتهما 15 جنيها!! وهو ما يتفق مع ما أثبتته الاحصائيات أن معدل استهلاك المعسل يرتفع في مصر بصورة كبيرة فوفقا لتقرير تلقته لجنة الصحة بالبرلمان المصري في ديسمبر 2008، يقدر حجم ما يستهلكه رواد مقاهي القاهرة بحوالي 40 مليون طن من المعسل سنويا.
بجواري علي الطاولة كانت عزيزة '21' سنة وهي فتاة غير متعلمة تعمل هي الاخري من أجل تجهيز نفسها بعدما توفي والدها بعد أن ظل يعاني سرطان المثانة طيلة 7 سنوات لم يذهب خلالها للطبيب لضيق ذات اليد وعن ذلك تقول عزيزة "كان بينزف دم كتير، وكان بيقول دول شوية التهابات وهيروحوا وطالما قادر اقف علي رجلي مالهومش لازمة الدكاترة " وحين اكتشف المرض كان علي مشارف الموت وكان علي عزيزة أن تكمل الجهاز حتي يتم زفافها لخطيبها المؤذن ،لأن اخوتها "صحتهم علي قدهم ومش لاقيين شغل" علي حد تعبيرها .
أما حسنات '16 سنة' فهي طالبة في الصف الثاني الثانوي الفني ورغم أن والدها مازال علي قيد الحياة فهي تقول " أبويا فلاح بس ماعندناش أرض بيشتغل كدة اليوم بيومه، كلنا ولاد ناس غلابة ، هنجيب منين ، انا ماقدرش اقعد كده من غير شغل ولا فلوس لحد ما أخلص الدبلوم ، دا انا كان يجرا لي حاجة قلة القرش في ايد الواحدة وحش وحش اوي ".
واندمجت في العمل وأثناء قيامي بلف المعسل اذ بصوت يناديني من خلفي " يا مزة" فلم الق بالا فاذ بها تنادي مرة أخري وصاحبت نداءها بمحاولة لنزع الكرسي الذي أجلس عليه، فالتفت اليها : " أنا؟"
فأجابت :" هوا فيه مزة هنا قاعدة علي الكرسي غيرك؟ ، هاتي الكرسي ده بتاعي ".
فأعطيتها المقعد وأنا أعلم أنه لا يخصها ولكني آثرت السلامة وأكملت العمل وانا واقفة وحين اقتربت الساعة من الثانية عشرة ونصف ظهرا كنت علي وشك الانهيار وشعرت بألم في صدري وأصبت بدوار وصداع شديدين ولاحظت عزة ألمي فأخبرتهم قائلة " شكلها تعبت ياعيني شوفوا وشها ؟!"
فردت أسماء :" ماعلش كلنا بيحصلنا كدة أول أسبوع لكن بكرة تتعودي عالريحة وعالتعب" وهنا كنت علي وشك أن أنفجر وأطلب الخروج من هذا المصنع دون رجعة، ولكني تذكرت أنني لن استطيع الخروج الا مع الباصات في الخامسة ونصف واذا حاولت ربما اثير شكوكهم ويفتشوني فيجدوا الكاميرا وحينها لا أعرف ماذا سيفعل بي فهذا المكان لم يستطع أحد دخوله حتي الباحثين الاكاديميين بمركز البحوث وهذا ما حدث مع الدكتورة "أمل سعد الدين " التي قالت لـ'الأسبوع': أردت عمل بحث عن صحة العاملات في مصانع المعسل وذهبت الي بعض هذه المصانع ولكن المسئولين عنها لم يسمحوا لي باجراء البحث أو حتي دخول المصنع " . لكنها تشير إلي أن صحة العاملات في الصالات معرضة للغازات والمواد الكيماوية الضارة التي تمتص عن طريق الجلد فتدخل الجسم وتحدث به أضراراً شديدة .
وعن الاحتياطات التي كان يجب أن يأخذها المصنع في اعتباره تقول سعد الدين " يجب أن يكون هناك ماسكات خاصة بامتصاص الغازات واخري خاصة بالاتربة كما يلزم توفير القفازات وافارول يلبس فوق ملابس الفتاة ويغسل بمغسلة في المصنع يوميا ، كما يجب ان يكون هناك دش للفتيات ليتخلصن من آثار المعسل ويزلن الاحماض عن اجسادهن بدلا من أخذها معهم الي المنزل.
وتضيف " وهناك أعمار يجب ان تتجنب هذا العمل وهن الفتيات المتزوجات حديثا ويوجد احتمال للحمل لأن هذه الاحماض تعمل علي تشوه الاجنة ، أما عن الاطفال فحدث ولا حرج انهم في فترة تكوين لخلاياهم ولا يجب ان يتعرضوا لذلك من الاساس حيث تكون الخلية في هذه المرحلة حساسة جدا ويمكن ان يتغير تركيب خلاياهم فيصابوا بأورام سرطانية او تورث هذه الاورام للاجيال القادمة'.
وتؤكد الدكتورة أمل سعد الدين أنه يجب علي اصحاب المصانع ضرورة حماية العامل او العاملة وما يتناسب مع طبيعة المكان فلابد من ارتداء البوت والماسكات والافارول والقفازات الي جانب وجود الشفاطات بصورة كبيرة."
كانت الصناديق علي طاولتي قد نفدت فأرسلوني مع فتاة من الطاولة المجاورة لننزل ونحضر بعضا منها. فاعتبرتها فرصة للهروب من اجواء المرض في الصالة وفي الطريق إلي مبني آخر مررنا في طريقنا بالسخانات وهنا أدركت ماهيتها انها "المحرقة" في هذا المكان حيث تتصاعد الأبخرة والغازات الساخنة من الصهاريج السوداء حيث يخلط التبغ بعد فرمه في الفرامات مع العسل الاسود والمكونات الأخري.
وأخبرتني نعيمة أنها عملت في هذه السخانات بالأمس فتقول 'ربنا يكون في عون البنات اللي شغالة في السخانات'.
وعن هذه المرحلة من التصنيع تقول دكتورة 'سعد الدين' : 'في مرحلة السخانات فان شدة الحرارة يمكن أن تسبب للنساء اجهادا حراريا من مظاهره عدم التركيز والاحساس بالاجهاد العام والصدمات الحرارية التي تشبه ضربة الشمس ومن ثم يتعرضن لاغماءات متكررة وقد تؤدي الي الوفاة في بعض الاحيان ، كما أن الغازات المنبعثة أثناء صنع المعسل في السخانات تهيج الجهاز التنفسي و الغشاء المخاطي للجسم كله فتسبب التهابات العينين والانف كما يمكن حدوث حروق نتيجة الحرارة المرتفعة'.
تنهدت نعيمة بألم وقالت " أنا مش جاهلة أنا معايا ثانوية أزهرية بس أبويا علي قده ما قدرش يدخلني الجامعة ، أمي قالت لي اختاري اما انتي تقعدي او حد من اخواتك يقعد ، واخواتي لسة صغيرين في ابتدائي واعدادي ، يعني انا اخد كلية واخواتي يبقوا جهلة خالص ، قعدت، انتي لو مكاني تعملي ايه ؟ تضحي بنفسك ولا تظلمي اخواتك؟"
وتكمل نعيمة " احنا الأول ما كانش حالنا كدة كنا عايشين في بيت العيلة مع عمي لكن فجأة عمي قلب علينا مع انه كان طيب ، بعدها قعدنا في دار صغيرة وبقي حالنا علي قدنا وبدأت حياتنا تبقة أصعب.
وعندما لمحت نعيمة في عيني تأثرا من أجلها قالت " لأ دا انا احسن من غيري كتير ، البنات هنا عندهم مآسي بجد فيه ناس مش لاقية العيش الحاف بس هما مبيتكلموش ،عارفة الأول كنت باشتغل في مصنع شمع في طنطا كان الشمع ينزل علي رجلي وهو سخن أبقة هاموت ، وأفضل طول الليل أعيط أهو هنا أرحم شوية عالأقل الواحدة جسمها ميتحرقش"
ثم مررنا علي الفرامات التي تخرج منها كميات كبيرة من الرذاذ والاتربة حيث يتم فرم نباتات التبغ الجافة بنية اللون لتؤخذ بعد ذلك الي السخانات ، وعن أمراض هذه المرحلة تقول دكتورة "سعد الدين" :" في مرحلة الفرم تؤثر الأتربة علي الجهاز التنفسي خاصة أن فرم النباتات المجففة يصاحبها بعض الفطريات وتسبب هذه الفطريات حساسية صدر وتكيسات صدر وامراضا صدرية مزمنة "
عدت من صالة الأقفاص إلي طاولتي وجلست أكمل مع زميلاتي الجدد ما بدأناه.
واستمرينا في العمل حتي سمعنا صوت ارتطام شديد بالارض فاذا باحدي الفتيات علي الطاولة المجاورة فقدت الوعي لمدة سبع دقائق رغم محاولات مشرفة البنات إفاقتها وعندما سألت علمت انها عادة ما يغمي عليها ولا يعرفون السبب.
وشارفت الساعة علي الثانية بعد الظهر ونحن لم نكمل حصتنا بعد وكانت كل الطاولات قد أنهت عملها وجاءت نعيمة كي تساعدنا حتي نخرج سويا للغداء ، وانهينا الكمية ثم ذهبنا الي الحمام كي نغسل أيدينا من آثار المعسل.
ونظرت فاذ بفتحتين صغيرتين في سور المصنع وعلي كل منهما تقف مجموعة كبيرة من البنات والشباب لشراء الطعام من البائعين في الخارج وهو عبارة عن ساندوتشات الفول والطعمية واكياس عصير التمرهندي ومدت نعيمة يدها بربع جنيه وأعطته لأسماء القريبة من فتحة السور لتشتري لها كيس تمر هندي وأتت أسماء بالكيس وتعرفت عليها فهي فتاة في الرابعة عشرة من عمرها تقول اسماء " انا هنا من اربع سنوات ، كان عمري 10 سنوات طلعت من المدرسة من تالتة ابتدائي وجيت اشتغلت هنا، كنت الاول بكنس وامسح واشيل زبالة دلوقتي بقيت وزينة .
وفي المصلي الموجود بالمصنع تعرفت علي سمر '11 سنة' وهي طالبة في الصف السادس الابتدائي تقول " أنا باشتغل علشان أساعد أبويا وهو خفير واحنا اربع اخوات مرتبه مابيكفيناش عيش ومخلل لازم أساعده علي الأقل أجيب لقمتي"
ولأنني استمعت إلي حكايات متشابهة عن ظروف أخريات فقد تأخرت عن الصعود للعمل وكانت الساعة قد اصبحت الثالثة وعشر دقائق عصرا فصعدنا بسرعة ودخلنا الصالة وتحملنا ماسمعناه من شتائم وشخط وأكملنا عملنا حتي الساعة الخامسة مساء فخرجنا واصطحبتني نعيمة حتي تبدل ملابسها هناك عند الصناديق مع احدي صديقاتها وهناك وجدت البنات من السخانات يعصرن عبايات العمل وينشرنها علي السور حتي الصباح ليلبسنها في اليوم التالي.
خرجنا نستنشق بعض الهواء حتي تأتي الأتوبيسات لتصحب الفتيات الي قراها وفي كل باص سائق ومقاول وهو الشخص الذي يقوم بجمع الفتيات للمصنع من القري النائية ويصحبهن في الذهاب والعودة كل يوم.
وعلي عكس الصباح كانت الفتيات كأنهن خرجن من سجن مظلم الي عالم من الحرية والانطلاق، فنجية تجلس الي جانب عم شعبان السائق تحكي معه وتضحك حينا وتستدير لتشارك الفتيات بالخلف السخرية من بشري ريسة الصالة حينا آخر وايمان ترفض الجلوس علي مقعد وتجلس بالباب لتمد قدميها في الهواء وهي تغني.
وعن السلامة في مصانع التبغ يقول علي عامر سكرتير السلامة والصحة المهنية بالاتحاد العام لنقابات عمال مصر بالقاهرة " هناك مشكلة في السلامة والصحة المهنية في المصانع المصرية بسبب قلة عدد المفتشين بالصحة في وزارة القوي العاملة، ويفترض أن يكون هناك مرور دوري علي مصانع التبغ للتأكد من وجود شفاطات كبيرة وكمامات للعاملات ولكن أزمة عدم تعيين أطباء ومهندسي سلامة وصحة مهنية جعل أصحاب المصانع لا يلتزمون بشروط السلامة والصحة المهنية فهم لا يريدون ان يدفعوا مزيدا من الاموال، والحكومة تتبني نهج عدم التعيين بالجهاز الاداري للدولة ومن يخرج معاشا في الصحة المهنية لا يعين غيره فخلال ثلاثة او اربعة اعوام لن يكون هناك مفتشو صحة مهنية فالآن مثلا البحيرة بها 1000 مصنع واربعة مفتشين فكيف سيكون الحال داخل هذه المصانع؟!"
ويضيف عامر:" ظروف الحياة الصعبة وانخفاض مستوي المعيشة بتضطر الناس تطلع أطفالها للعمل واحد بيقبض 200 جنيه فكيف يعيش هو واسرته ؟! لذا يجب أن نوفر لهذه العمالة الحماية الكافية حتي يلتزم أصحاب المصانع بقانون 12 لعام 2003 وهو قانون العمل الموحد ولن يتم ذلك الا اذا تم تعيين مزيد من مفتشي السلامة والصحة المهنية فعندما يجد صاحب المصنع لجنة تحرر له محضرا كل أسبوع وليس كل عام سيضطر أن يلتزم.
وعن المخاطر المعرضة لها العاملات في مصانع التبغ يقول عامر: "أخطر ما يهدد العاملين في مصنع المعسل أمراض الرئة والأمراض الصدرية والفشل الكلوي واخطرها الدرن الرئوي"